فصل: تفسير الآيات (71- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 73):

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
قلت: {ونُردُّ}: عطف على {ندعو} والهمزة للإنكار، والرد على العقب: الرجوع إلى وراء، لعلَّةٍ في المشي، واستعير للمعاني، و{كالذي استهوته}: الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في {نُردّ} أي: كيف نرجع مشبهين بمن استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف، أي: ردًا كرد الذي... الخ. واستهوى: استفعل، من هَوَى في الأرض إذا ذهب، وقال الفارسي: استهوى بمعنى أهوى، مثل استزل بمعنى أزل، و{حيران}: حال من مفعول استهوى.
و{أن أقيموا}: عطف على {لنُسلم}، أو {أمرنا}. {قوله الحق}: مبتدأ، و{يوم يقول}: خبر مقدم، أي: قوله الحق حاصل يوم يقول: {كن فيكون}، وفاعل {يكون}: ضمير فاعل كن، أي: حين يقول للشيء: كن فيكون ذلك الشيء، و{يوم ينفخ}: ظرف لقوله: {الملك}، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غَافر: 16].
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد {أندعو من دون الله} أي: نعبد {ما لا ينفعنا ولا يضرنا} من الأصنام الجامدة، {ونُرد على أعقابنا} أي: نرجع إلى الشرك {بعد إذ هدانا الله} وأنقذنا، ورزقنا الإسلام، وهذا على الصحابة. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم له شرك؛ لعصمته، أي: كيف نرد على أعقابنا ردًا {كالذي استهوته الشياطين}، أي: أضلته مَرَدَةُ الجن عن الطريق المستقيم، فذهب {في الأرض حيران}؛ متحيرًا ضالاً عن الطريق، {له أصحاب} أي: رفقة {يدعونه إلى الهدى} أي: إلى الطريق المستقيم، يقولون له: {ائتنا} وكن معنا لئلا تتلف. وهو مثال لمن ترك الإسلام وضل عنه.
{قل} لهم: {إن هدى الله}، وهو الإسلام، {هو الهدى} وحده، وما عداه ضلال. {و} قد {أمرنا لنسلم لرب العالمين} نكون على الجادة من الهدى، {و} أُمرنا {أن أقيموا الصلاة واتقوه}: أي: أُمرنا بإقامة الصلاة والتقوى، رُوِي أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت، وعلى هذا أُمِر الرسول بهذا القول؛ إجابة عن الصديق تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا للاتحاد الذي كان بينهما. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي: ويبُطل هذا قول عائشة: ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا برائتي. اهـ. قلت: ليس بحجة؛ لصغر سنِّها وقت نزول الآية بمكة، والإسلام يمحو ما قبله. ثم قال جل جلاله: {وهو الذي إليه تحشرون} يوم القيامة؛ فيظهر من تبع الحق من الباطل.
{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق}. أي: قائمًا بالحق والحكمة، فهو أحق بالعبادة وحده، {ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} أي: قوله العدل حاصل يوم يقول للبعث والحشر: كن فيكون، {وله الملك يوم ينفخ في الصور} أي: انفرد الملك له يوم ينفخ في الصور فيقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يُجاب، فيقول: لله الواحد القهار، {عالم الغيب والشهادة} أي: هو عالم بما غاب وما ظهر، {وهو الحكيم} في صنعه، {الخبير} بأمر عباده.
الإشاره: إذا توجه العبد إلى مولاه، وانقطع بكليته إلى الله، طالبًا منه معرفته ورضاه، قد يمتحن بشيء من شدائد الزمان؛ كالفاقة وإيذاء الخلق والأحزان، فيقال اختبارًا له: تعلق في دفع ما نزل بك بشيء من السِّوى، فيجب عليه أن يقول: {أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونُردُّ على أعقابنا} بالالفتات إلى غير ربنا، بعد إذ هدانا الله إلى توحيده ومعرفته، ونكون كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران بالتفاته إلى غير الكريم المنان، {قل إن هدى الله} أي: هدايته الخاصة، وهي الإنقطاع إليه وحده في الشدائد، {هو الهدى}، وقد أُمرنا بالانقياد بكليتنا إلى ربنا، وأُمرنا إذا حزبنا شيء بإقامة الصلاة؛ لأنها مفتاح الفرج، وبالتقوى؛ لأنها سبب النصر؛ {إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا}، وآخر أمرنا الموت والحشر إلى ربنا، والاستراحة إلى الروح والريحان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (74):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}
قلت: {آزر}: عطف بيان، أو بدل من أبيه، ومنع من الصرف؛ للعلمية والعجمة. وقرأ يعقوب بالضم على النداء، وقيل: إن آزر اسم صنم؛ لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ. فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به؛ لملازمته له، وقيل: هما عَلمَانِ له كإسرائيل ويعقوب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أذكر {إذ قال إبراهيم لأبيه آزر}، حين دعاه إلى التوحيد: {أتتخذ أصنامًا آلهة} تعبدها من دون الله، وهي لا تنفع ولا تضر، {إني أراك وقومك في ظلال مبين}: بيِّن الضلالة، ظاهر الخطأ.
الإشارة: كل من سكن إلى شيء دون الله، أو مال إليه بالعشق والمحبة، فهو صنم في حقه، فإن لم ينزع عن محبته، ولم يقلع عن السكون إليه، كان حجابًا بينه وبين شهود أسرار التوحيد. وفي الحِكَم: (ما أحببت شيئًا إلا وكنت عبدًا له، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدًا). وفي الحديث: «تَعِس عبدُ الدينار والدرهم».. أي: خاب وخسر، فإذا اطلع الحق تعالى على قلب عبده فرآه مائلاً لغيره، حجب عنه أنوار قدسه، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه:
لِي حَبِيبٌ إنما هو غَيُور ** يُطلُّ في القَلبِ كَطَيرٍ حَذُور

إذا رأى شَيئًا امتَنَع أن يَزُور

.تفسير الآيات (75- 79):

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
قلت: المُلك: ما ظهر في عالم الشهادة من المحسوسات، والملكوت: ما غاب فيها من معاني أسرار الربوبية، والجبروت: ما لم يدخل عالم التكوين من أسرار المعاني الأزلية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكذلك} أي: مثل ذلك التبصر الذي بَصَّرنا به إبراهيم حتى اهتدى للرد على أبيه، نُريه {ملكوت السماوات والأرض} أي: نكشف له عن أسرار التوحيد فيهما، حتى يشاهد فيهما صانعهما، ولا يقف مع ظاهر حسهما، وإنما فعلنا له ذلك {ليكون من الموقنين} بمعرفتنا، عارفًا بأسرار قدسنا.
ولما كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والقمر والشمس، أراد أن يرشدهم إلى التوحيد من طريق النظر والاستدلال؛ {فلما جن عليه الليل} أي: ستره بظلامه، {رأى كوكبًا} وهو الزهرة أو المشتري، {قال هذا ربي} على سبيل التنزل إلى قول الخصم، وإن كان فاسدًا؛ فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم، ثم يَكرّ عليه بالفساد؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، {فلما أفل} أي: غاب، {قال لا أحب الآفلين}؛ فضلاً عن عبادتهم؛ فإن التغير بالاستتار والانتقال يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية.
{فلما رأى القمر بازغًا}: متبدئًا في الطلوع، {قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين}. استعجزَ نفسه واستعان ربه في دَرك الحق، وأنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه؛ إرشادًا لقومه. وتنبيهًا لهم على أن القمر أيضًا؛ لتغيُّر حاله، لا يَصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهًا، فهو ضالٌّ.
{فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي}، إنما ذكَّر الإشارة لتذكير الخبر، وصيانةً للرب عن شبهة التأنيث {هذا أكبر} لكبر النور وسطوعه أكثر، {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} من الأجرام المحدثة المحسوسة، المحتاجة إلى محدث يحدثها، ومخصص يخصصها.
ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها، فقال: {إني وجهت وجهي للذي فطر} أي: أبدع {السماوات والأرض} حال كوني {حنيفًا} أي: مائلاً عن دينكم {وما أنا من المشركين} مثلكم. وإنما احتج بالأفول دون البزوغ، مع أنه تغير؛ لأن الأفول أظهر في الدلالة؛ لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب. ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال. وقيل: إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان في حال طفولته قبل التكليف. فقد رُوِي أنه لما ولدته أمه في غار، خوفًا من نمرود؛ إذ كان يقتل الأطفال؛ لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي يُولد في هذا العصر، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه، وهو في الغار، وهذا ضعيف لأن قوله: {إني بريء مما تشركون} يقتضي المحاججة والمخاصمة لقومه.
وقوله عليه السلام: {هذا ربي} مع قوله: {إِنّي سَقِيمٌ} [الصَّافات: 89]، و{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، ليس بكذب؛ للعصمة، وإنما هو تورية. وفي الحديث: «ليس بكاذبٍ من كاذَب ظالمًا، أو دفع ضررًا، أو رعى حقًا، أو حفظ قلبًا» وفي رواية أخرى: «ليس بكاذب، من قال خيرًا أو نواه» وأما اعتذاره في حديث الشفاعة؛ فلهول المطلع، فيقع الحذر من أدنى شيء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لمَّا كوشف إبراهيم بعالم الملكوت، رأى الله في الأشياء كلها، كما ورد في بعض الأثر: (ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه). وإنما قال: {لا أحب الآفلين}؛ حذرًا من الوقوف مع الحس دون شهود المعنى، إذ بحر المعاني متصل دائم ليس فيه تغيير ولا انتقال. وإنما تتغير الأواني دون المعاني، فشمس المعاني مشرقة على الدوام ليس لها مغيب ولا تغير ولا انتقال، ولذلك قيل:
طَلَعت شَمسُ مَن أُحِبُ بلَيلٍ ** واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ

إنَّ شَمسَ النَّهَارِ تَغرُبُ بالَّليلِ ** وشَمسُ القُلوبِ ليس لهَا مَغِيبُ

أي: طلعت شمس نهارعرفانهم على ليل وجودهم، فامتحت ظلمة وجودهم في شهود محبوبهم، وفي الحِكَم: (أنا الظواهر بأنوار آثاره، وأنار السرائر بأنوار أوصافه، لأجل ذلك أفَلَت أنوار الظواهر، ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر).
قال الجَوزِي: لما بدا لإبراهيم نجم العلم، وطلع قمر التوحيد، وأشرقت شمس المعرفة قال: {إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي...} الآية. اهـ. قيل: لما نظر إبراهيم عليه السلام بعيون رأسه إلى نور النجم والشمس والقمر الحسي، نودي في سره: يا إبراهيم، لا تنظر ببصرك إلى الجهة الحسية، وانظر ببصيرتك إلى الحقيقة المعنوية؛ لأن الوجود كله عين الأحدية، فافهم معاني الأسماء، ولا تقف مع جرم الأرض والسماء، فإن الوقوف مع الحس حجاب عن المعنى. فقال إبراهيم: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين}. اهـ.
وفي ذلك يقول الششتري أيضًا:
لا تنظُر إلَى الأوَاني ** وَخُض بَحرَ المعَانِي

لَعَّلَكَ تَرَانِي

.تفسير الآيات (80- 82):

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونّيِ فيِ اللهِ وقد هَدَآنِ...}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وحاجه قومه} أي: خاصموه في التوحيد، فقال لهم: {أتحاجُّوني في الله} أي: في وحدانيته، أو في الإيمان به، وقد هداني إلى توحيده وأرشدني إلى معرفته، فلا ألتفت إلى غيره، ولا أعبأ بمن خاصمني فيه، والأصل: تحاجونني، فحذف نافع وابن عامر نون الرفع، وأبقى نون الوقاية، وقيل: العكس، وأدغم الباقون أحدى النونين في الأخرى.
الإشارة: مخاصمة العموم لأهل الخصوصية سُنَّة ماضية؛ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62]؛ لأنَّ من أنكر شيئًا عاداه، فأهل الخصوصية يَعذرون من أنكر عليهم؛ لأن ذلك مبلغهم من العلم، والعامة لا يعذرون أهل الخصوصية؛ لخروجهم عن بلادهم؛ فلا يعرفون ما هم فيه. والله تعالى أعلم.
ولما خاصموا إبراهيم عليه السلام فلم يلتفت إليهم، خوفوه بأصنامهم، فقال لهم: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}
قلت: الاستثناء في قوله: {إلا أن يشاء}: منقطع. قاله ابن جزي. وظاهر كلام البيضاوي: أنه متصل، وهو المتبادر، أي: ولا أخاف ما تشركون في حال من الأحوال إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمكروه من جهتها؛ استدراجًا لكم، وفتنة. وقال الواحدي: لا أخاف إلا مشيئة ربي أن يعذبني.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكيًا عن خليله إبراهيم: {ولا أخاف ما تُشركون به} أي: لا أخاف معبوداتكم أن تصيبني بشيء؛ لأنها جوامد لا تضر ولا تنفع، {إلا أن يشاء ربي شيئًا} يصيبني بقدَره وقضائه، فإنه يصيبني لا محالة، لا بسببها، {وَسِعَ ربي كل شيء علمًا}، كأنه علَّة الاستثناء، أي: لا أخاف إلا ما سبق في مشيئة الله، لأنه أحاط بكل شيء علمًا، فلا يبعد أن يكون في علمه وقدره أن يحيق بي مكروه من جهتها، {أفلا تتذكرون} فتُمَيزوا بين الصحيح والفاسد، والقادر والعاجز؟.
{وكيف أخافُ ما أشركتم} وهو جامد عاجز لا يتعلق به ضرر ولا نفع؟ {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} وهو أحق أن يُخاف منه كل الخوف، لأنه القادر على الانتقام ممن أشرك معه غيره، وسوَّى بينه وبين مصنوع عاجز، لا يضر ولا ينفع، فأنتم أحق بالخوف؛ لأنكم {أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطانًا} أي: لم يُنَزل بإشراكه كتابًا، ولم ينصب عليه دليلاً، {فأيُّ الفريقين أحق بالأمن}: أهل التوحيد والإيمان، أو أهل الشرك والعصيان؟ {إن كنتم تعلمون} ما يَحق أن يُخاف منه.
ثم أجاب عن الاستفهام: الحق تعالى أو خليلهُ، فقال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا} أي: يخلطوا {إيمانهم بظلم} أي: بشرك، بل آمنوا بالله ولم يعبدوا معه غيره، {أولئك لهم الأمن} في الآخرة، {وهم مهتدون} في الدنيا. أما الطائع فأمنه ظاهر، وأما المعاصي فيؤمن من الخلود وتحريم الجنة عليه.
ولمَّا نزلت الآية أشفق منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ لأنهم فهموا عموم الظلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إَنَّ الشِرْكِ لَظُلْمٌ} [لقمَان: 13]» وقد كان المشركون يُقِرُّون بالصانع ويخلطون معه التصديق بربوية الأصنام، فقد آمنوا بوجود الصانع، ولكنهم لبسوا إيمانهم بالشرك، فلا آمن لهم ولا هداية. وبهذا يرد جهالة الزمخشري في إنكاره الحديث الصحيح، ولو بقي الظلم على عمومه أي: ولم يخلطوا إيمانه بمعصية لصَحَّ، ويكون المراد بالأمن أمنًا خاصًا وهداية خاصة، لكن ما قاله عليه الصلاة والسلام يُوقف عنده.
الإشارة: العارف بالله، المتحقق بوحدانية الله، لا يسكن خوفْ الخلق في قلبه، ولا ينظر إلا إلى ما يبرُز من عند ربه، فإن وعدَه بالعصمة أو الحفظ لم يترك بذلك التضرعَ والالتجاء إلى ربه؛ لسعة علمه تعالى، وقد يكون ذلك متوقفًا على أسباب وشروط، أخفاها الحق تعالى إظهارًا لقهريته، ولذلك قال الخليل عليه السلام: {ولا أخاف ما تُشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا}. وقال سيدنا شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أّن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شيء عِلْمًا} [الأعراف: 89]. فالعارف لا يزول اضطرارهُ، ولا يكون مع غير الله قراره، وأما الأمن من التحويل والانقلاب، فاختلف فيه؛ فقال بعضهم: يحصُل للوليِّ الأمنُ، إذا تحقق بمقام القُرب، وحصل له الفناء والبقاء، متمسكًا بقوله تعالى: {الَّذِين آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمن}. وقال بعضهم: لا يحصل الأمن إلا للأنبياء عليهم السلام؛ للعصمة.
قال الورتجبي: مقام الأمن لا يحصل لأحد، ما دام هو بوصف الحدثَية، وكيف يكون آمنًا منه وهو في رِقِّ العبودية ويعرف نفسه بها، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت؟ وقال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. فإذا رأى الله تعالى بوصف المحبة والعشق والشوق، وذاق طعم الدنو، واتّصف بصفات الحق، بدا له أوائل الأمن، لأن في صفة القدم لا يكون علة الخوف والرجاء، لأن هناك جنة القرب والوصال، وهم فيها آمنون من طوارق القهر، وهم مهتدون ما داموا متصفين بصفاته، وإن كانوا في تسامح من مناقشة الله بدقائق خفايا مكره. اهـ.
فظاهر كلامه، أن المتحقق بمقام الفناء والبقاء، يحصل له الأمن من الشقاء، وكذلك قال أبو المواهب: من رجع إلى البقاء أمِنَ من الشقاء. وقال في نوادر الأصول: مَن حَظُّه من أهل التقريب: الجلال والجمال، وقد أقيم في الهيبة والأنس، قد غاب عن خوف العقوبة، ولكنه يخاف التحويل والهُوِي والسقوط، لِما رُكب في نفوس بني آدم من الشهوات، فهن أبدًا يُهوِين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والبُطء، وإنما يسكن خوف التحول إذا خلَص إلى الفردانية وتعلَّق بالوحدانية؛ لتلاشِي الهوى منه والشهوة؛ بكشف الغطاء، ولا يذهب خوف ذلك بالكُلِّية عنه، وإن سكن؛ لبقاء خيال ذلك في حق غير الأنبياء. وأما هُم فلم يبقَ لهم ظِلُّ الهوى، فبُشِّروا بالنجاة؛ فلَم تَغُرهم البُشرى؛ لأنهم لم يبق لهم نفوس، فتستبدّ وتجور إذا أمِنَت السقوط، ومَن بعَدَهم بَقِي لهم في نفوسهم شيء فمُنعوا البشرى، وأُبهم عليهم الأمر؛ صنعًا بهم؛ ونظرًا لهم، لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال. اهـ. هذا هو الأصل فافهمه. اهـ.
وحاصل كلامه: أن غير الأنبياء لا ينقطع عنه خوفُ التحويل، بل يسكن خوفه فقط، ولا يُبَشِّر بالأمن إلا الأنبياء، وهو الصواب، لبقاء قهر الربوبية فوق ضعف العبودية، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعَام: 18]. والله تعالى أعلم.